رحلة للمجهول
قصة من تأليفي
كنت جالسا بالحافلة عندما شاهدتهم وهم يتكلمون ويتلفتون يمينا ويسارا ، ولم أكن أعرفهم ، ثلاثة أطفال ، طفلتان وطفل صغير ، لم تتجاوز أعمارهم العاشرة ، عندما تنظر لأعينهم تجد فيها مسحة من حزن قديم رغم صغر سنهم ، وقلق وتوتر من مستقبل مجهول ، عليهم من الثياب ما يدل على نوع من الثراء .
أثارو إنتباهي بمظهرهم هذا وإجتماعهم معا ، قد يكون هذا المنظر مألوفا لدي الكثير منا ، ولكني كنت أستقل حافلة تقطع مئات الأميال من مدينة لأخرى ، ولم يكن مع الأطفال شخص كبير ، يُلقى إليه بأعباء السفر ومشاقه ،فالسفر قطعة من العذاب وإن تنوعت أساليبة وطرقه .
في البداية ، عندما صعدوا إلى الحافلة ، طننت أن كبيرهم وعائلهم يُحضر شيئا ما ومن ثَم يلحق بهم ، ولكن بمرور الوقت وتحرك الحافلة ، تلاشت هذه الفكرة شيئا فشيئا .
كنت أجلس في الكرسي الذي خلفهم مباشرا وكانوا كثيري الإلتفاف إلى الخلف ، وكأنهم يودعون الماضي بنظرات كلها حزن وأَسى ، ثم يعتدلون في الجِلسة وينظرون للأمام بنظرة ترى فيها الخوف والقلق ، لفت نظري شنطة صغيرة تحملها البنت الكبرى والتي لم تتجاوز العاشرة في تقديري، فلازالت ملامح الطفولة ترسم خطوطها البريئة على وجهها الصغير .
مرت حوالي الساعة وهم على هذه الحالة وأنا أراقبهم بدون أن أُشعرهم بذلك ، وفوجئت بالبنت الكبرى تطلب مني بعض الماء لأخيها الصغير ، فأعطيتها على الفور الذي طلبته ، ولاحظت شيئا غريبا ، فطريقة تعامل هذه البنت مع أخيها الصغير وحنوها عليه ، أشعرتني أنها ليست أخته الكبيرة فحسب ، بل أرتقت منزلتها لتكون أمه ، هذا ما أحسست به من طريقة تعاملها مع الطفل، بعدما فرغت من سقيها لأخيها أعادت لي زجاجة الماء مرة أخرى ، ولم تشرب لا هي و لا أختها ،وعندما سألتها أن تأخذ كفايتها من الماء ، قالت لي : نحن كبار نستطيع أن نتحمل ولكن أخي طفل صغير لا يعرف شيئا .
أثار هذا الرد إندهاشي ولكني أصررت أن تستبقي الماء معها لأن السفر طويل ، أثار فضولي أن أعرف قصتهم وأن أقف على خبرهم ، فقلت لها : لماذا لم يحضر معكم شخص كبير ليعتني بكم في هذا السفر الطويل ؟! .
نظرت إلي البنت قليلا وبدا لي أنها لا تريد أن تجاوب على تساؤلي ، ثم قالت لي : لقد تركنا منزل أبينا لنذهب لأمنا في بلدة كذا ...، ولن نعود إليه مرة أخرى .
وبردها علي وإجابتها هذه ، تركت عندي بعض التساؤلات وعدة علامات إستفهام ؟؟! وأصبحت أكثر فضولا لمعرفة قصتهم أكثر من ذي قبل ، وبمجرد أن فرغت من كلامها ، وإذا بسؤال يخرج مني دون أن أشعر ، وكأنه رد فعل تلقائي ...
- لماذا ؟؟؟
توقفت الفتاة عن الكلام لحظة ثم قالت لي : لأنه يكرهنا ولا يحبنا ....... ثم سكتت ونظرت لأسفل وكأنها تتذكر شيئا حدث لهم ..... فقلت لها :
- لا يوجد أب يكره أولاده مهما حدث .
لم ترد علي ، بل ظلت صامته وتنظر لأسفل ... ولكن بعد قليل وبعد أن أيقنت أنها لم تسمعني .. قالت لي
- أنت تعرف بابا ؟! ......... قلت لها : لا أعرفه .. فقالت لي :
لماذا إذن تدافع عنه ؟ .... ثم سكتت قليلا وأعقبت قولها بصوت منخفض : هو أكيد لا يحبنا ...
إذا كان يحبنا فعلا كما تقول ، لما ترك أمي تسافر وتتركنا ونحن في حاجة إليها ...
ثم سألتها : هل كان والداك يتشاجران كثيرا ؟
فنظرت إلي بآسى وقالت : نعم كل يوم ..... لا لا بل كل ساعة ....ولا تسألني لماذا لأني لا أعرف لماذا...
ثم سألتها : وهل تعرفين عنوان والدتك في هذه البلدة.. ؟
سكتت قليلا ثم أومأت برأسها أن لا....
نظرت إليها قليلا ، ثم أعتدلت في جلستها ونظرت لأخيها الذي كان أنهكه التعب فنام على رجل أخته الثانية .
لقد شغلني كلامها كثيرا حتى أني لم أهتم بأموري الخاصة في السفر، من ترتيب وإعداد وما إلى ذلك،
كيف يتناسى هذا الأب يوما كيف يكون مصير الأبناء عندما يقرر هذه الأمر الصعب على النفس وهو الإنفصال، معظم العلاقات الزوجية تمر بمنحنيات صعبة قد تودي بحياة هذه العلاقة ، ولكن الزوجين يتحمل كل منهما من أجل الأبناء.
نعم من منا لم يتشاجر مع شريكة حياته يوما ، وقد يكون لسبب تافه ، ولكن ينبغي علينا أن نقدر ظروف بعضنا البعض ، وخاصة نحن في عصر ، القلق والتوتر من أهم سماته .
في حالة هذه البنت ، قد يكون أحد الوالدين هو المخطيء أو قد يكون كلاهما ، ولكن الشيء المؤكد أن من يدفع الثمن هم الأبناء وحدهم ، قد يتزوج الرجل بأخرى وقد تتزوج الأم برجل أخر، ولكن الأبناء من أين لهم بأب أخر أو أم أخرى،
هذه حالة من ألاف الحالات في مجتمعاتنا العربية، فهل نعتبر مما وقع فيه غيرنا ، وكم من نادم على كلام خرج من شفتيه ولم يستطع أن يعيد الكلام مرة أخرى إلى جوفه.
هذه الأفكار كانت تعج في رأسي حتى أثقلت جفوني وغفوت قليلا ، ولم أنتبه إلا وأحدهم يوقظني ويخبرني أننا وصلنا .
أول شيء فعلته بعدما فتحت عيني ، نظرت إلى الأولاد فلم أجدهم ، تلفت عليهم حولي فلم أجدهم ، ثم سألت السائق عنهم فأخبرني أنهم نزلوا منذ خمس دقائق في أول البلدة ، جمعت حقائبي ونزلت من الحافلة .
أنتهت رحلتي ولكن متى تنتهي مأساة هؤلاء الأطفال !!
م/محمد محمود
أغسطس 2007
قصة من تأليفي
كنت جالسا بالحافلة عندما شاهدتهم وهم يتكلمون ويتلفتون يمينا ويسارا ، ولم أكن أعرفهم ، ثلاثة أطفال ، طفلتان وطفل صغير ، لم تتجاوز أعمارهم العاشرة ، عندما تنظر لأعينهم تجد فيها مسحة من حزن قديم رغم صغر سنهم ، وقلق وتوتر من مستقبل مجهول ، عليهم من الثياب ما يدل على نوع من الثراء .
أثارو إنتباهي بمظهرهم هذا وإجتماعهم معا ، قد يكون هذا المنظر مألوفا لدي الكثير منا ، ولكني كنت أستقل حافلة تقطع مئات الأميال من مدينة لأخرى ، ولم يكن مع الأطفال شخص كبير ، يُلقى إليه بأعباء السفر ومشاقه ،فالسفر قطعة من العذاب وإن تنوعت أساليبة وطرقه .
في البداية ، عندما صعدوا إلى الحافلة ، طننت أن كبيرهم وعائلهم يُحضر شيئا ما ومن ثَم يلحق بهم ، ولكن بمرور الوقت وتحرك الحافلة ، تلاشت هذه الفكرة شيئا فشيئا .
كنت أجلس في الكرسي الذي خلفهم مباشرا وكانوا كثيري الإلتفاف إلى الخلف ، وكأنهم يودعون الماضي بنظرات كلها حزن وأَسى ، ثم يعتدلون في الجِلسة وينظرون للأمام بنظرة ترى فيها الخوف والقلق ، لفت نظري شنطة صغيرة تحملها البنت الكبرى والتي لم تتجاوز العاشرة في تقديري، فلازالت ملامح الطفولة ترسم خطوطها البريئة على وجهها الصغير .
مرت حوالي الساعة وهم على هذه الحالة وأنا أراقبهم بدون أن أُشعرهم بذلك ، وفوجئت بالبنت الكبرى تطلب مني بعض الماء لأخيها الصغير ، فأعطيتها على الفور الذي طلبته ، ولاحظت شيئا غريبا ، فطريقة تعامل هذه البنت مع أخيها الصغير وحنوها عليه ، أشعرتني أنها ليست أخته الكبيرة فحسب ، بل أرتقت منزلتها لتكون أمه ، هذا ما أحسست به من طريقة تعاملها مع الطفل، بعدما فرغت من سقيها لأخيها أعادت لي زجاجة الماء مرة أخرى ، ولم تشرب لا هي و لا أختها ،وعندما سألتها أن تأخذ كفايتها من الماء ، قالت لي : نحن كبار نستطيع أن نتحمل ولكن أخي طفل صغير لا يعرف شيئا .
أثار هذا الرد إندهاشي ولكني أصررت أن تستبقي الماء معها لأن السفر طويل ، أثار فضولي أن أعرف قصتهم وأن أقف على خبرهم ، فقلت لها : لماذا لم يحضر معكم شخص كبير ليعتني بكم في هذا السفر الطويل ؟! .
نظرت إلي البنت قليلا وبدا لي أنها لا تريد أن تجاوب على تساؤلي ، ثم قالت لي : لقد تركنا منزل أبينا لنذهب لأمنا في بلدة كذا ...، ولن نعود إليه مرة أخرى .
وبردها علي وإجابتها هذه ، تركت عندي بعض التساؤلات وعدة علامات إستفهام ؟؟! وأصبحت أكثر فضولا لمعرفة قصتهم أكثر من ذي قبل ، وبمجرد أن فرغت من كلامها ، وإذا بسؤال يخرج مني دون أن أشعر ، وكأنه رد فعل تلقائي ...
- لماذا ؟؟؟
توقفت الفتاة عن الكلام لحظة ثم قالت لي : لأنه يكرهنا ولا يحبنا ....... ثم سكتت ونظرت لأسفل وكأنها تتذكر شيئا حدث لهم ..... فقلت لها :
- لا يوجد أب يكره أولاده مهما حدث .
لم ترد علي ، بل ظلت صامته وتنظر لأسفل ... ولكن بعد قليل وبعد أن أيقنت أنها لم تسمعني .. قالت لي
- أنت تعرف بابا ؟! ......... قلت لها : لا أعرفه .. فقالت لي :
لماذا إذن تدافع عنه ؟ .... ثم سكتت قليلا وأعقبت قولها بصوت منخفض : هو أكيد لا يحبنا ...
إذا كان يحبنا فعلا كما تقول ، لما ترك أمي تسافر وتتركنا ونحن في حاجة إليها ...
ثم سألتها : هل كان والداك يتشاجران كثيرا ؟
فنظرت إلي بآسى وقالت : نعم كل يوم ..... لا لا بل كل ساعة ....ولا تسألني لماذا لأني لا أعرف لماذا...
ثم سألتها : وهل تعرفين عنوان والدتك في هذه البلدة.. ؟
سكتت قليلا ثم أومأت برأسها أن لا....
نظرت إليها قليلا ، ثم أعتدلت في جلستها ونظرت لأخيها الذي كان أنهكه التعب فنام على رجل أخته الثانية .
لقد شغلني كلامها كثيرا حتى أني لم أهتم بأموري الخاصة في السفر، من ترتيب وإعداد وما إلى ذلك،
كيف يتناسى هذا الأب يوما كيف يكون مصير الأبناء عندما يقرر هذه الأمر الصعب على النفس وهو الإنفصال، معظم العلاقات الزوجية تمر بمنحنيات صعبة قد تودي بحياة هذه العلاقة ، ولكن الزوجين يتحمل كل منهما من أجل الأبناء.
نعم من منا لم يتشاجر مع شريكة حياته يوما ، وقد يكون لسبب تافه ، ولكن ينبغي علينا أن نقدر ظروف بعضنا البعض ، وخاصة نحن في عصر ، القلق والتوتر من أهم سماته .
في حالة هذه البنت ، قد يكون أحد الوالدين هو المخطيء أو قد يكون كلاهما ، ولكن الشيء المؤكد أن من يدفع الثمن هم الأبناء وحدهم ، قد يتزوج الرجل بأخرى وقد تتزوج الأم برجل أخر، ولكن الأبناء من أين لهم بأب أخر أو أم أخرى،
هذه حالة من ألاف الحالات في مجتمعاتنا العربية، فهل نعتبر مما وقع فيه غيرنا ، وكم من نادم على كلام خرج من شفتيه ولم يستطع أن يعيد الكلام مرة أخرى إلى جوفه.
هذه الأفكار كانت تعج في رأسي حتى أثقلت جفوني وغفوت قليلا ، ولم أنتبه إلا وأحدهم يوقظني ويخبرني أننا وصلنا .
أول شيء فعلته بعدما فتحت عيني ، نظرت إلى الأولاد فلم أجدهم ، تلفت عليهم حولي فلم أجدهم ، ثم سألت السائق عنهم فأخبرني أنهم نزلوا منذ خمس دقائق في أول البلدة ، جمعت حقائبي ونزلت من الحافلة .
أنتهت رحلتي ولكن متى تنتهي مأساة هؤلاء الأطفال !!
م/محمد محمود
أغسطس 2007